تآكل الدعم الغربي لإسرائيل- من طوفان الأقصى إلى العزلة الدولية

المؤلف: مَاجد إبراهيم11.05.2025
تآكل الدعم الغربي لإسرائيل- من طوفان الأقصى إلى العزلة الدولية

تتجذر قوة الكيان المحتل واستدامته في العلاقة الإستراتيجية الوثيقة والدعم الأمريكي الراسخ الذي يتلقاه، وهو دعم متين يرتكز على النفوذ السياسي والاقتصادي الهائل الذي يمارسه اللوبي اليهودي، بالإضافة إلى تغلغله العميق في أروقة الحزبين الحاكمين. ويتعمق هذا الترابط من خلال دمج وجود الكيان المحتل في خدمة المصالح الأمريكية والغربية في المنطقة، ما يجعله حجر الزاوية في استراتيجياتهما. وقد تعزز هذا الوضع بشكل كبير بفعل هيمنة القطب الواحد، لكن هذه الهيمنة بدأت تتراجع تدريجياً مع صعود الصين وسعي روسيا الحثيث لتحدي النفوذ الأمريكي.

في خضم هذه التحولات، جاءت عملية "طوفان الأقصى" لتزلزل مكانة إسرائيل الإستراتيجية في المنطقة، تلك المكانة التي كانت تعتمد إلى حد كبير على التفوق العسكري لجيشها الذي زُعم أنه "لا يقهر". كما وجهت العملية ضربة قاصمة لنظرية الردع الإسرائيلية التي كانت تستند إلى التفوق النووي والتكنولوجي. إن الأحداث المأساوية للعدوان على غزة، والوحشية المتزايدة التي يمارسها الاحتلال، بدأت تقوض أسس الانحياز الأمريكي التقليدي للكيان، وذلك من خلال التأثير العميق على القاعدة الشعبية في الولايات المتحدة، وكشف زيف ادعاءات الاحتلال الأخلاقية وبكائياته المستمرة. هذا بالإضافة إلى الانقلاب الجذري في صورة الكيان على مستوى العالم.

لقد تجلى زيف الدعاية الإسرائيلية بشكل صارخ، وذلك بفضل التدفق الهائل للصور ومقاطع الفيديو التي توثق المجازر الإسرائيلية البشعة التي استهدفت بشكل خاص الأطفال والنساء، بالإضافة إلى الهجمات المتكررة على المستشفيات والمدارس وعمال الإغاثة والفلسطينيين العزل الذين يتوافدون لتسلم المساعدات الإنسانية.

فشل الاحتلال وساديّته

في مقال سابق نُشر على الجزيرة نت في 28 يناير/كانون الثاني، سلطنا الضوء على التدهور المتزايد في مكانة الكيان الإستراتيجية في المنطقة، بعد أن أصبح عاجزًا عن حماية نفسه، فضلاً عن توفير الحماية لغيره. وقد شكل هذا الضعف تهديدًا حقيقيًا للمصالح الأمريكية، ما دفع الولايات المتحدة إلى العودة بقوة إلى المنطقة لحماية الكيان، بعد أن كانت تعتبره حصنًا متقدمًا لها، وتسعى جاهدة لتتويجه على عرش المنطقة من خلال عمليات التطبيع والتعاون الأمني مع بعض الدول العربية.

لذا، سنركز هنا على التطورات المتلاحقة للحرب التي تجاوزت حتى الآن ستة أشهر، دون أن يتمكن الاحتلال من تحقيق أهدافه السياسية والعسكرية المعلنة. وقد لجأ الاحتلال إلى إستراتيجية خسيسة تتمثل في استهداف المدنيين وتجويعهم، واستهداف قوافل الإغاثة الإنسانية بعد الإغلاق شبه الكامل لمعبر رفح. وبلغت هذه الوحشية ذروتها في استهداف طواقم منظمة المطبخ المركزي العالمي، ما أسفر عن مقتل سبعة من موظفيها الأجانب، وهو الأمر الذي فتح على الكيان أبوابًا من الغضب والانتقاد الدولي.

على الرغم من أن الدول التي فقدت مواطنين في هذه المجزرة المروعة، مثل بريطانيا وأستراليا والولايات المتحدة وكندا وبولندا، لم تدِنْ بشكل صريح مقتل رعاياها، إلا أن تصريحاتها العلنية كانت تنم عن استياء عميق وسخط شديد على إسرائيل، ما عزز مواقف معظمها الداعية إلى وقف الحرب، بعد أن كانت قد أبدت دعمًا لها في بدايتها.

هذا التحول الملحوظ تجلى بوضوح في المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيس الأمريكي جو بايدن مع نتنياهو عقب الحادثة، حيث صرح بايدن بأن "العالم قد تحول ضد إسرائيل، وأن حلفاء واشنطن أبلغوها بتحول كبير في سياستهم". وعندما يصدر هذا التصريح على لسان رئيس أكبر وأهم حليف لإسرائيل، فإن ذلك يحمل دلالات عميقة، ويشير إلى تحول جوهري في المواقف الأوروبية، وعلى الأخص مواقف الدول الأنجلوساكسونية، فيما يتعلق بدعمها للحرب على غزة.

ويعود هذا التحول إلى سببين رئيسيين:

  • السبب الأول: فشل الاحتلال الذريع في المهمة الموكلة إليه بالقضاء على حركة حماس، وغرقه المستمر في وحْل غزة، دون أن يتمكن من تحقيق أهدافه، بل وتكبّده خسائر فادحة تدفعه باستمرار إلى طلب المزيد من الذخيرة والسلاح من أمريكا والغرب، وهو ما يشكل عبئًا ثقيلاً على شبكة توريد الأسلحة، وضغطًا هائلاً على طاقتها الإنتاجية، خصوصًا أنها مستنزفة بالفعل في توريد الذخائر والأسلحة إلى أوكرانيا.
  • السبب الثاني: تسبّبت وحشية الاحتلال وساديته المتناهية في تصاعد وتيرة الاحتجاجات الشعبية العارمة في الدول الغربية، ضد استمرار الحرب، وكانت أكثف وأضخم هذه الاحتجاجات في أكبر دولتين داعمتين للعدوان، وهما أمريكا وبريطانيا. وقد أثر ذلك بشكل مباشر على شعبية الحزبين الحاكمين فيهما (الحزب الديمقراطي في أمريكا، وحزب المحافظين في بريطانيا)، وأضر بفرصهما في الانتخابات المقبلة التي ستجري هذا العام.

وعليه، فإن مجمل المواقف الغربية في الوقت الراهن لا تدعم استمرار الحرب، في حين لا تزال إدارة بايدن تدعو إلى وقف مؤقت لإطلاق النار، مع دعمها في الوقت نفسه لاستمرار الحرب، ولكن لأجل محدد، يسمح لها بتحقيق مكاسب سياسية تقود إلى التطبيع في المنطقة، ما يمكن استخدامه كورقة رابحة في الانتخابات القادمة.

إن هذه المواقف لا تعني بأي حال من الأحوال زوال الدعم عن الاحتلال، حيث لا تزال ألمانيا، على سبيل المثال، المزوّد الثاني لإسرائيل بالأسلحة بعد أمريكا. ولكن من الواضح أن هناك تحولًا ملحوظًا في موقف الولايات المتحدة والغرب، يهدف إلى إضعاف حركة حماس سياسيًا، بعد فشل الاحتلال في القضاء عليها عسكريًا، أو حتى إضعافها إلى درجة الإخضاع في مواقفها السياسية.

وقد أكدت تقديرات أجهزة الاستخبارات الأمريكية أن قوات الاحتلال لم تنجح إلا في تدمير ثلث أنفاق حماس، في حين يؤكد العديد من المحللين الصهاينة أن كتائب القسام لا تزال تحتفظ بالآلاف من مقاتليها العاملين في غزة، فضلاً عن استمرار المقاومين في التصدي للاحتلال في جميع مناطق القتال التي سبق أن أعلن الجيش الإسرائيلي عن القضاء على قوة حماس فيها.

تحوّل الرأي العام الغربي

إن فشل الاحتلال في تحقيق مهمته سيضعف بلا شك مكانته الإستراتيجية في المنطقة، وقد يجعله عبئًا ثقيلاً على داعميه. ولكن الجانب الآخر لهذه المعادلة هو أن ممارساته الوحشية بدأت تحدث تحولًا ملموسًا في الرأي العام الغربي، ما يشكل بذرة مستقبلية مهمة لإحداث تغييرات جذرية في المواقف السياسية لدى الأحزاب الحاكمة والمعارضة. وهذا بدوره سينعكس سلبًا على حجم وطبيعة الدعم الذي سيتم تقديمه لإسرائيل، وسيتيح المجال بشكل أكبر للمقاومة الفلسطينية لمواصلة دورها الفاعل في نحت وجود الاحتلال وإضعافه.

كما أن هذا التحول سيساهم في إضعاف الأنظمة الحاكمة في المنطقة التي تتحالف مع الكيان الغاصب أو تطبّع معه، وسيعزز مكانة الحركة الشعبية الداعمة للمقاومة الفلسطينية.

وفي هذا السياق، نستذكر استطلاع "غالوب" الذي أظهر انخفاض التأييد الأمريكي للحرب الإسرائيلية في غزة من 50% في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي إلى 36% في مارس/آذار 2024.

وكذلك الاستطلاع الصادم الذي أجراه معهد "بيو" الأمريكي للأبحاث، والذي كشف أن 58% من الأمريكيين يرون أنه يجب السماح بالتعبير عن معارضة حق إسرائيل في الوجود.

تكمن أهمية نتائج هذه الاستطلاعات في أنها تشير بوضوح إلى تحرر المجتمع الأمريكي، ومعه المجتمع الغربي، من القيود المفروضة بموجب القوانين التي تم سنّها لمنع انتقاد إسرائيل أو إدانتها تحت مسمى "معاداة السامية"، وانكشاف زيف الدعاية الصهيونية التي استندت إلى البكائيات ومحاولة تصوير إسرائيل على أنها تعيش وسط غابة من الإرهابيين.

لقد تجلى زيف هذه الدعاية بشكل فاضح من خلال التدفق الهائل للصور ومقاطع الفيديو التي توثق المجازر الإسرائيلية التي استهدفت الأطفال والنساء، والهجمات المتكررة على المستشفيات والمدارس وعمال الإغاثة والفلسطينيين الذين يتوافدون لتسلم المساعدات الإنسانية.

كما انكشفت الأكاذيب الإسرائيلية التي اتهمت المقاومة في 7 أكتوبر/تشرين الأول بارتكاب الفظائع ضد الأطفال واغتصاب النساء، ما أحدث رد فعل عكسيًا لدى الناشطين الاجتماعيين الذين ساهموا بفاعلية في كشف زيف هذه الروايات المضللة!

وقد فنّدت صحيفة "لوموند" الفرنسية كذبة الأطفال مقطوعي الرأس في تحقيق جديد نشر في 3/4/2024، وخلص إلى أن "إسرائيل لم تفعل شيئًا لمحاربة المعلومات المضللة، وفي كثير من الأحيان حاولت استغلالها بدلًا من إنكارها".

وقد حاولت الدولة العميقة الدفاع المستميت عن النفوذ اليهودي، حينما استجوب الكونغرس الأمريكي رؤساء أربع جامعات أمريكية عريقة بسبب عدم ضبطهم للمظاهر المناهضة للكيان في جامعاتهم، والتي تم تصنيفها ضمن خانة معاداة السامية!!

ومن الأمثلة الصارخة على الضجر الغربي المتزايد من مجازر الاحتلال، ما نشرته صحيفة "الإندبندنت" البريطانية، حيث كتبت على غلافها "كفى!" (Enough)، وجاء في افتتاحيتها: "لقد أصبح عمال الإغاثة السبعة الذين قُتلوا في غارة جوية رمزًا للطريقة المتهورة الخارجة عن القانون التي أدار بها نتنياهو هذه الحرب. لقد حان الوقت للقيام بكل ما يلزم لإجبار حكومة إسرائيل على إنهائها".

حبل الناس

لقد كانت إسرائيل ولا تزال كيانًا غريبًا في المنطقة، ومنبوذًا من قبل شعوبها. وعلى الرغم من اتفاقيات السلام والتطبيع التي أبرمتها بعض الأنظمة العربية مع الكيان، فإن التطبيع بقي حبيس الأنظمة ولم يمتد إلى الشعوب.

والحقيقة أن قادة الكيان يدركون هذه الحقيقة المرة منذ البداية، ولذلك بقي صمام الأمان لوجودهم في المنطقة هو اعتمادهم الكلي على الدعم الغربي، وعلى الأخص الدعم الأمريكي السخي بالمال والسلاح. وقد كشف السابع من أكتوبر/تشرين الأول الهشاشة المتناهية للجيش الإسرائيلي الذي لم يصمد طويلاً أمام هجمة مئات الشبان المسلحين بأسلحة خفيفة. فضلاً عن أن مجرى الحرب المستمرة قد أكد بشكل قاطع أن الكيان غير قادر على الصمود دون الدعم العسكري والمالي الأمريكي، المصحوب بتأمينه سياسيًا عن طريق استخدام حق النقض (الفيتو) لمنع إدانته في مجلس الأمن على جرائمه وانتهاكاته السافرة للمواثيق والأعراف الدولية.

ولذلك، فإن تخلخل المكانة العسكرية والأمنية للكيان، الذي أكدته الأحداث الجارية، واستمرار حاجة الاحتلال الماسة إلى الدعم الأمريكي دون أن يكون مؤهلاً لحراسة مصالح المشروع الغربي، سيجعلان هذا الكيان يخسر مكانته الإستراتيجية في المنطقة، وقد يصبح عبئًا ثقيلاً على داعميه في المرحلة المقبلة.

وإذا أضفنا إلى ذلك الانقلاب الكبير في صورته -التي طالما سوقها لنفسه بأنه يواجه إرهاب الفلسطينيين- إلى كيان إرهابي متمرد على القيم والمبادئ الإنسانية، فإن ذلك سيؤدي إلى تغييرات جوهرية في الرأي العام الغربي الذي سيضغط بدوره على الأحزاب المختلفة في الغرب لتغيير أساليب تعاملها مع هذا الكيان.

لقد وصل الكيان إلى مستوى غير مسبوق من الانحطاط في مكانته العالمية، حينما أوصلته جرائمه الشنيعة إلى محكمة العدل الدولية، وانضمام دول أخرى إلى جنوب أفريقيا في الدعوى المرفوعة ضده بتهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، وهي حالة لم يشهدها الكيان منذ تأسيسه المشؤوم.

كما أن رفع نيكاراغوا دعوى مماثلة في نفس المحكمة ضد ألمانيا، المصنفة كثاني أكبر داعم للكيان بالسلاح، سيؤدي حتمًا إلى تحسب الدول الأخرى التي تدعم هذا الكيان، خشية أن توضع في خانة الإدانة الدولية، وهو الأمر الذي قد يحد من مستوى تعاون أو تحالف أي دولة مع هذا الكيان مستقبلًا.

كل هذه المعطيات تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن إسرائيل تسير بخطى حثيثة نحو خراب كيانها المصطنع، عبر فقدانها التدريجي لحبل النجاة الذي يبقيها على قيد الحياة. ولو سُمح لمحيطها العربي والإسلامي بالتحرك بحرية ضدها على المستويين الجماهيري والسياسي، فإن ذلك سيعجل بنهايتها المحتومة، وذلك بعد أن تصبح عبئًا لا يطاق على أمريكا والغرب.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة